رأيت كل متشبّع برأي أو منتحل لفكرة معنياً بإلباسها لبوس السعة والعموم؛ فما يقوله هو قناعة الناس كافّة، وليس رأيه المجرد وحديثه، وأنه جرى على لسانه إلا أنه حديث للقلوب كافّة، وإنْ تردّدت في البوح، أو تلجلجت في التعبير.
وابتداءً فليس كل ما يتوارد عليه الناس في زمن خاص، وموقع خاص هو صواب قاطع، بل الكثير من الحقائق والمعاني الصحيحة هو مما يقصر فهم الناس عنه، وربما نسبوا صاحبه إلى الزلل أو البله.
وَمَن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ * يَجِد مُرًّا بِهِ الماءَ الزُلالا
والعموم من الخلق لا يملكون آليّة التحليل والدراسة والفهم والتمييز لمعرفة الخطأ من الصواب.
بل قد يكون حكمهم مبنياً على مجرد الإلف والاعتياد.
وقد يكون انطباعاً نفسياً لا يملكون الاستدلال عليه, أو تقليداً لمعظم من يقوله، فيعظم في عيونهم لعظمة من قال به، وتتهيب ألسنتهم من نقده..
فالعامّة ليسوا معياراً للمعرفة, ولا للخطأ والصّواب.
بيد أن بعض من يحاول التكثّر بهم يقترف خطأً آخر حين ينسب إليهم ما لا يقرّون به ولا يعتقدونه، فهو يمنح نفسه حقّ الحديث عنهم والنطق على لسانهم؛ فالشعب يرى كذا، ويريد هذا، ويرفض ذلك، والناس، والطلبة، والمرأة، والشباب، والمجتمع ... إلى آخر القائمة.
والحق أنه يمكن التعرّف على رأي شريحة ما من خلال آليّات محكمة، مثل صناديق الاقتراع التي إذا تمت بشفافية صادقة كانت تعبيراً عن رأي الناس فيما يريدون وفيمن يريدون، وقد جرت الانتخابات البلديّة في المملكة وحسمت نزاعاً نظرياً بشأن قناعة الناس وثقتهم...
وهذه مسألة لا يحسن أن تُعطى فوق قدرها، ولكن دلالتها مما لا يمكن التغاضي عنه.
ومن الآليات الاستطلاعات و (الاستبانات)المتعلقة بمعرفة الرأي حول مسألة ما، إذا كانت حياديّة في صياغة مفرداتها، وانتقاء المشاركين فيها.
وبإزاء هذا فإن مجرد الصوت الرفيع والصياح العالي ليس تعبيراً جاداً عن رأي الناس، وسكوتهم حيال هذا الصوت قد يعني أنهم لم يسمعوه، أو لم يكترثوا به، أو أنهم عبروا بطريقتهم الخاصة.
وكذلك الوسائل الإعلاميّة فهي قد تكون موجهة للرأي، ولكنها ليست معبّرة عنه بالضرورة، خاصة الإعلام الأحادي الذي هو رسالة من طرف واحد إلى المتلقين.
أما حين تكون الأداة الإعلاميّة تفاعلية تسمح للمتلقي بأن يقول رأيه أو يعترض فهي أقرب إلى نبض الناس، وإن كانت الوقائع تدل على أن ملكيّة الأداة الإعلاميّة تظل مؤثرة فيها إلى حدّ كبير.
نعم. قد ترسم القيادة الذكية هامشاً للمشاركة المعترضة، لكنه يظلّ محدوداً بالقياس إلى الفضاء الواسع المتاح لمن يمثلون رأي الجهة المانحة وقناعتها.
فالقنوات الفضائيّة، والصحف، والمواقع الإلكترونيّة تعبّر عن رأي ملاّكها أو مديريها أو المؤثرين فيها، في المسائل الحرجة أكثر مما تعبّر عن رأي القارئ، وإن كانت تأخذ رأي القارئ بالاعتبار حفاظاً على شعبيّتها، فتراعي ذلك في الصياغة والجوانب الفنيّة, وحجم الموضوع ومقدار الحماس، والقارئ أو المشاهد هنا مؤثر لهذا الاعتبار، ولكن متأثر بصورة أكبر.
رأي المجتمع في مسألة ما، يمكن أن يُؤخذ من خلال استفتاء واضح كما حدث بشأن الدستور الأوروبي، وحينئذ يمكن أن يُقال: إن الناس في هذا البلد أو ذاك يؤثرون أو يعارضون، يردّون أو لا يردّون.
ويمكن أن يُؤخذ من خلال استطلاعات نزيهة محايدة لا مجال للعبث فيها.
ويجدر بالذكر أن كثيراً من المواقع الإلكترونية تضع استطلاعات، ولكنها تتعرّض للعبث لسهولة اختراق النظام وإجراء الآلاف من الأصوات عن طريق جهاز واحد، كما هو مفهوم لدى المتخصصين.
إن من اعتدال التفكير أن يظلّ الكاتب أو المتحدث - وإن كان مقتنعاً بفكرته- بعيداً عن إلزام الناس بها والقول على ألسنتهم، دون أن يملك دليلاً على ذلك.
وإن الروح العلميّة الحضاريّة تقتضي أن نتربّى على التعبير المتزن عن آرائنا بوضوح وصراحة، لكن على أنها آراؤنا الخاصة، تلزمنا نحن، ولا تلزم الآخرين، إلا بقدر ما يؤمنون بها ويعبّرون عنها.
ولو أن عشرة كتّاب آمنوا بفكرة, ثم كتبوا عنها وتحدّثوا، وأبدوا وأعادوا لظن من لا ينظر إلى المجتمع إلا من خلالهم أن الناس كلها تقول هذا.
بيد أنك لو حضرت مجلساً عادياً عشوائياً لوجدت الأمر مختلفاً.
وفي هدي الشريعة التأكيد على التثبّت والتبيّن وعدم التقوّل على الناس ما هو جدير بالتأمل.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا...) [الحجرات:6]، ويقول سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[الأحزاب:58].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ).
$$$$$$$$$$$$$$$$
منقول عن
الشيخ: سلمان العودة